«أصلّي أو لا أصلّي»، «أكون داخل المسجد أو خارجه»: على ما يبدو هذه هي المعضلة المغلوطة الّتي تفرّق بين المسلمين وتقسّمهم إلى مؤمنين صالحين وآخرين إيمانهم ضعيف. إنّ الفترة الّتي نعيشها الآن ترزح تحت عبء هذه المفارقة الّتي تفوح منها رائحة الكراهيّة، والّتي تنتج عنها أحيانا تداعيات مأساويّة: إنّها المفارقة بين الّذين يريدون فرض رؤيتهم ومفهومهم للدّين وأولئك الّذين يرفضون رفضا قاطعا كلّ شكل من أشكال الإيمان القسريّ، بين الّذين في قلوبهم إيمان عفويّ وأولئك الّذين يستغلّونه لأغراض إيديولوجيّة، بين الّذين يتصوّرون الدّين مجرّد طقوس وشعائر وأولئك الّذين يرونه قبل كلّ شيء ضربا من الرّوحانيّة.
وفي هذا الإطار يندرج معرض "العالم كله جامع" الّذي يطرح في الآن ذاته مسألة إمكانيّة الهروب من الفضاء المقدّس واحتمال جعل الفضاء الدّنيويّ فضاءا مقدّسا. فالجامع عندئذ سيصبح في كلّ مكان، وسيصبح الإيمان حينها مسألة روحيّة قبل أن يكون مسألة متعلّقة بفضاء مغلق.
لا ينبغي أن يوهمنا العنوان "العالم كله جامع" بأنّ الهدف من المعرض هي محاولة لإخضاع الأرض للطّقوس أو الأماكن الإسلاميّة المقدّسة، وليست هي محاولة للدّعوة أو لهداية الضّالّين، وإنّما هو سعي لجعل العالم بأسره مكانا واحدا للصّلاة والتّقرّب من إله واحد لجميع البشر!
إنّها محاولة للخروج من الفضاءات الضّيّقة الخانقة إلى مكان مكشوف في الهواء الطّلق يصدح فيه حديث الرّوح. فهو شكل من أشكال نزع القدسيّة عن الأماكن المغلقة وجعلها فضاءات مفتوحة للحياة والتّلاقي والتّنوّع.
لو كان العالم كلّه جامعا لزال ما نراه اليوم من كراهيّة وحروب وصراعات، ذلك لأنّ الجامع مكان للسّلام والطّمأنينة والوسطيّة قبل كلّ شيء. فالجامع يعيد نسج علاقات اجتماعيّة متماسكة تدعو إلى الوحدة والتّشارك، وفيه يمكنك الإصغاء إلى صوت إلاهيّ لا يمكن أن يعبّر إلا على محبّة الله للبشر. لو كان العالم جامعا لأدركنا أنّ الصّلوات هي في حدّ ذاتها تقديس للإنسان، ولرأينا تدفّق النّاس الّذين في قلوبهم رحمة ومودّة والّذين لهم قدر من الطّيبة لنصرة الضّعيف والمظلوم وقدر من التّسامح لقبول أولئك الّذين يؤمنون والّذين لا يؤمنون، والّذين من ذويهم ومن غير ذويهم.
ثمّ إنّه عند السّموّ عن الفضاء المادّيّ للمعتقد يصبح الإنسان المؤمن ملاذا لبقيّة البشر، فتسقط الأقنعة وتتهدّم الجدران والفضاءات الضّيّقة الخانقة وتتحوّل إلى فضاء مفتوح ينطلق فيه حديث الرّوح. فهو شكل من أشكال نزع القدسيّة عن الأماكن المغلقة وجعلها فضاءات مفتوحة للحياة والتّلاقي والتّنوّع.
لا يمتّ الإسلام لتديّن الكهنوت بصلة، ولا يعترف بالوساطة بين الإنسان وخالقه. لذلك فمن الممكن في كلّ مكان تأسيس علاقة روحيّة مع الله حتّى خارج فضاء الجامع. ومن الممكن إقامة الصّلاة فوق الرّمال وعلى الحصى، وفي المنازل الفخمة أو على قطعة قماش مرميّة على الأرض. فكلّ مكان على سطح المعمورة يمكن أن يكون جامعا، والصّلاة ممكنة حيثما ولّيت وجهك وشعرت بوجود الله.
يؤكّد هذا القول عظمة الإسلام وسماحته، ويبرز لنا جانبه «العلمانيّ» الّذي يجعل من المسلم إنسانا حرّا ومسؤولا في الوقت ذاته، ويجعل من الدّين مسألة خاصّة بين الإله وعبده. من هذا المنطلق تسترجع هذه الدّيانة قيمها البديهيّة فيها: حرّيّة المعتقد وحرّيّة التّنقّل، وحرّية تأسيس علاقة خاصّة مع الخالق. وهذا هو الرّهان «الفلسفيّ» الّذي رفعه معرض «العالم كله جامع»: فهو معرض وقع تصميمه في شكل تنصيبات في 22 حاوية شحن وقع تجميعها قطعة بقطعة، فشكّل فضاء فنّيّا يتناغم مع مكان الصّلاة والعبادة. وتقع هذه التّنصيبات في قلب قرطاج، بين آثار الامبراطوريّة الرّومانيّة وعلى مرمى حجر من المسرح الأثريّ، وهو في نفس الوقت يقع بين حقبتين زمنيّتين، بين الحضارات القديمة والفترة المعاصرة. وفي نفس الوقت الّذي نبقى فيه متمسّكين بالماضي وجذورنا القرطاجنّيّة ينفتح هذا المعرض على مستقبل واع بالحرّيّات الفرديّة وبالتّوازن بين الثّقة في الإنسان والإيمان بالله. و في المعرض يرى النّاظر تقابلا بين الموادّ المعدنيّة والصّخور الأثريّة، وبين البناء الصّناعيّ المعاصر وآثار الحضارات القديمة، وهو أمر مقصود أيضا.
و يجمع المعرض أيضا بين فنّ تصميم الدّيكور الّذي يذكّرنا بديكور المسرح الشّعبيّ وبين هيبة الفضاء المقدّس. وأخيرا فإنّ الوجود الكلّيّ لحاوية الشّحن وتجرّدها يلمّح على نحو معاكس لغياب ما هو جوهريّ، أي غياب الإيمان اللاّمادّي والذّاتيّ. فيجد المشاهد أعمالا من فنّ الكيتش ومسطّحات مضيئة وتركيبات متنوّعة وتنصيبات أخرى تفاعليّة.
ومعرض «العالم كله جامع» يروي قصّة عمل فنّيّ لاثنين وعشرين فنّانا أصولهم مغاربيّة وشرق أوسطيّة. وفيه يلجأ هؤلاء الفنّانون إلى الحواسّ الخمسة تماما مثلما دعائم الإسلام الخمس. و أعمال هؤلاء الفنّانين عبارة عن رحلة بحث لا تهدف بالأساس إلى التّساؤل «أين» نصلّي، وإنّما «لماذا» نصلّي.
ويمكن القول هنا إنّ تصميم ديكور المعرض يندرج ضمن فكرة الرّحلة المقدّسة، فكلّ طريق نسلكه هو فرصة للتّلاقي مع الآخرين، وكلّ مرحلة هي شكل من أشكال البحث عن الجانب الرّوحيّ فينا. تماما مثل هذا السّعي الدّائم لاكتشاف جوهر الإنسان يتّخذ المعرض أيضا طريقه ويقوم برحلته المقدّسة الخاصّة به، ليبعث من جديد في مدائن مختلفة من العالم.
الفنانون المشاركون:
عادل عابدين
رجاء عيسى
عمار العطار
ناصر السالم
راشد الشعشعي
ايمن بعلبكي
غالية بن علي
لينا بن رجب
عمر باي
زليخة بو عبد الله
منير فاطمي
عيشة فيلالي
نيسان قسنطيني
نادية كعبي لينكي
معا ملوح
اسماء منور
معتز نصر
محمود عبيدي
نطيل
يزيد اولاب
وائل شوقي
هيثم زكريا