قادني اهتمامي بكتاب «تخيّلات ووقائع» (Fantasmes et réalités) (2008) إلى الاطّلاع على مؤلّفات أخرى لجون جاك ديلوز، وخاصّة كتاب "الجزائر، وقائع حضريّة" (Alger, Chronique urbaine) (2001) و«الكلّ والجزء» (Le tout et le fragment) (2010) الّذان قدّم لنا فيهما المألّف أفكاره وأراءه في فنّ العمارة والتّعمير، والّتي تعبّر أحيانا عن إعجابه ببعض الأعمال المعماريّة، وأحيانا أخرى عن سخطه تجاه الفوضى الّتي تتّسم بها الأحياء الّتي تمّ تشييدها حديثا بشكل متسرّع، ضمن ما يمكن تسميته جماليّات الطّوارئ الّتي تشهدها الجزائر العاصمة منذ الاستقلال.
ولمّا قرأت مؤلّفات ديلوز فكّرت في الحال أن أستخرج منها عملا تشكيليّا، وسعيت إلى التّفكير في منتوج نهائيّ يكون إمّا شكلا من أشكال التّنصيب أو النّحت، بما أنّ الموضوع متعلّق بفنّ العمارة والبناء، أي بكلّ ما هو متّصل بالحجم والفضاء. ولكن لدى قيامي بالأبحاث اللاّزمة اكتشفت ثراء لا مثيل له في تأمّلاته وأفكاره، ثراء يمنح قدرة كبيرة على التّعبير من خلال استخدام عدد كبير ومتنوّع من الوسائط الّتي تشمل فنّ الفيديو والفيلم الوثائقيّ وحتّى الصّوت.
مقتطفات
عندما أتأمّل بشكل أوضح ما يحدث في الجزائر أكتشف أنّ فوضى عارمة تكتنف المكان. فقد لجأ المعماريّون الّذين تأثّروا بالتّعاليم الدّغمائيّة للمدارس إلى تيّارات الموضة وعقدوا العزم على القيام - كلّما سنحت لهم الفرصة ذلك - بأشكال معماريّة منهجيّة تعتمد أساسا على ما ذكر في الكتب والمراجع.
...
ومردّ ذلك أنّ رجال السّلطة المهووسين بالصّورة دائما ما يبحثون عن السّموّ والهيبة. أمّا المتساكن، أي المواطن سواء كان مترفا أو معدما، فإنّ هذه البنايات تعكس تخيّلاته الدّفينة، وأمّا الشّركات المعماريّة الّتي لا يهمّها - أو هي تجهل - الجانب الجماليّ فيها فإنّها بصدد إنتاج بضاعة بلا هويّة.
فالحصيلة إذن سيّئة. إذا لم يكن هناك فنّ للعمارة في الجزائر (أترك جانبا الاستثناءات) فذلك لأنّ النّظرة الّتي لدينا كلّنا جميعا، سواء كنّا معماريّين أو مقاولين أو مواطنين، بقيت معلّقة بوهم خادع أساسه أنّ الجودة الجماليّة للأشياء تكمن في محاكاة النّماذج ونقلها. وكنّا في السّابق قد عرفنا وخبرنا الطّريق المسدود الّذي تؤدّي إليه مثل هذه الاعتقادات.
...
في قلب كلّ هذا يوجد مفهوم المعيار، وهو الأداة الّتي يعتمد عليها كلّ كسول خامل. وبما أنّ المعيار يتحدّد في النّموذج الّذي عوض أن يكون عتبة لا يمكن تخطّيها فقد تمّ تقبّله على أنّه قيمة مطلقة، وأصبح المعيار ضربا من الإكراه الاعتباطيّ. على سبيل المثال، يمكن لمعيار مساحة مسكن متكوّن من ثلاثة غرف ومحدّد بسبعين مترا مربّعا أن يكون على الأقلّ بهذه المساحة مع إضافة بعض الأمتار المربّعة الّتي من شأنها أن تلبّي مطمح بعض المتقدّمين بالطّلب. يكفي العمل على تنسيب السّعر المحدّد للمساحة والسّعي إلى القيام ببعض التّقسيمات أو التّوزيعات الذّكيّة.
إذا ما أخذنا مثال العمليّات الّتي قامت بها "وكالة عدل" (الوكالة الوطنيّة لتحسين السّكن وتطويره) - وهو مثال أعرفه جيّدا بما أنّي قمت ببعث 2000 مشروع سكنيّ لفائدة هذه الوكالة في المدينة الجديدة سيدي عبد الله - فقد كان كرّاس الشّروط معياريّا وصارما بالمعنى السّلبيّ للعبارة، حيث نصّ بصفة حصريّة على إنشاء مساكن دون سواها، تتكوّن من ثلاث غرف من فئة 70 مترا مربّعا، ومن أربع غرف من فئة 85 مترا مربّعا (مضبوطة بالصنتيمتر)، مقصيا بذلك أيّ نموذج آخر للمساكن. وقد كانت لي فرصة الحصول على بعض البنى التّحتيّة لبناء شقق كاملة مكوّنة من طابقين بالإضافة إلى فناء صغير أمامها، ولكنّ الأمر كان مستحيلا لأنّ ذلك لم يكن متطابقا مع المعايير. لذلك فقد تُركت هذه الفضاءات (الّتي كانت يمكن أن تكون فضاء ملائما للسّكن) في شكل عقارات غير رسميّة.
أنا واثق من أنّ إشكاليّة المعيار -الّذي يُعتبر ضربا من ضروب التّنميط المبرمج - تعرقل تطوّر السّكن إلى مستوى معيّن من الجودة الّتي تتطلّع إليها السّلطات العليا في البلاد. فالمعيار إذا ما اختلط بمفهوم القاعدة يؤدّي إذا ما صُمّم بهذه الطّريقة إلى تشابه المساكن والبنايات، وإلى التّكرار النّسقيّ للعمارات، وإلى نظام "المجموعات الكبيرة" الّتي تمّ استيرادها في السّبعينيّات إلى الجزائر والّتي نواجه صعوبات جمّة في التّخلّص منها.
…
ويمكن رؤية هذا المشكل اليوم من جانبين.
الجانب الأوّل هي الأبراج السّكنيّة الّتي أقيمت لأكبر عدد ممكن من السّكّان، والّتي انتشرت منذ سنوات في محيط الجزائر العاصمة. وقد تمّ تحديد المعايير: خمسة عشر طابقا.
ولكن هل نحن واثقون من صمود هذه البنايات أمام الزّمن: رغم كلّ الضّمانات الّتي يقدّمها المعماريّون، هل ستبقى المصاعد الكهربائيّة تشتغل دون توقّف؟ هل سيدفع المتساكنون ما عليهم من رسوم؟ وهل ستستعمل هذه الأموال لصيانة هذه المباني؟ هل ستؤدّي حاويات القمامة دورها الصّحّيّ دون وجود أيّة مخاطر؟ كيف ستتشكّل العلاقات من النّاحية السّوسيولوجيّة بين من يسكن في الطّابق العلويّ وما يحدث من نشاطات في الطّابق الأرضيّ الّذي مازالت بعض السّلوكات مرتبطة به بقوّة؟
هذا جانب من المسألة. الجانب الثّاني الّذي سنتطرّق إليه لاحقا هي المصداقيّة الحضريّة لهذه الأبراج. ما هو الدّور الّذي تضطلع به في نسيج المدينة؟ وماهي تبريرات ذلك؟
...
على مرّ العقود كانت السّلوكات والتّصرّفات على أساس أنّ الأهداف الكمّيّة الصّرفة هي أكثر الأهداف وجاهة لتحقيق النّموّ والتطوّر. ولطالما غضضنا الطّرف عن تداعيات التّمدّن العبثيّ الّذي يفتقر إلى التّناغم والاتّساق، وعن أشكال العمارة الّتي تفتقد إلى روح الهويّة.
ولكنّني عندي اعتقاد جازم في أفضليّة الجانب الكيفيّ والجماليّ على الكمّيّ، ولا ينبغي تأويل هذا الموقف على أنّه اعتقاد نخبويّ. موقفي يبقى متواضعا: ينبغي فقط العودة إلى التّناسق الّذي يميّز الفكر التّقدّميّ (التّفكير في جودة أفضل للحياة سواء على مستوى الفرد أو المجموعة)، والكفّ عن مجاراة التّيّارات الدّيماغوجيّة أو الخفيّة للّذين لا يجيدون إلاّ صنع الخطاب. الفكرة ليست إنشاء مدينة تعجّ بناطحات سحاب يتلألأ زجاجها عند ملامسته أشعّة الشّمس، أو احتلال الفضاء الحضريّ بالسّيّارات، أو امتلاك الجميع لمنازل فخمة، أو التّخلّص من الفقراء ونقلهم إلى الأحياء المجاورة وفي مدن ثانويّة لا نمرّ من شوارعها. أتحدّث عن تشييد مدن متميّزة، ولكن ينبغي على التّميّز أن يكون في كلّ مكان، وأن يكون جامعا لا مفرّقا بين النّاس.
...
على الصّعيد العالميّ وفي الوقت الرّاهن، يمثّل فنّ العمارة الّذي يستفيد من التّغطية والإشهار الإعلاميّ نقيض كلّ محاولة سابقة للتطوّر: إنّه يمثّل جوهر التّمسّك والالتزام بالشّكليّات. فنلاحظ الخلط بين عديد الظّواهر، حيث استولت سلطة المال على وسائل الإعلام، وأصبحت كلّ مجموعة مهيمنة (شركات لها أسهم في سوق البورصة، رؤوس أموال احتكاريّة، سلطات سياسيّة) تسعى إلى فرض ذاتها على حساب الآخرين، من خلال تشييد أعلى البنايات أو أكثرها غرابة. وعلى هذه الأرض يتصارع المعماريّون المتكالبون على الطّلبات الرّفيعة المستوى والّتي تدرّ أموالا طائلة. فهم لا يسعون إلى إنتاج شيء يتّسم بالمعقوليّة والتّأقلم مع واقع البيئة المحيطة، بل يسعون إلى أن تنتصب في الفضاء أكثر الصّور إثارة.
في الجزائر يجب الأخذ بعين الاعتبار عديد الجوانب الدّفينة: اقتصاد يسعى إلى الاندماج في المسالك العالميّة، سياسات تعتمد الهيبة والنّفوذ، آليّات إنتاج محلّيّ هابطة القيمة (شركات مقاولة، معماريّون). تجعل كلّ هذه الاعتبارات الدّولة مجبرة على الاتّجاه نحو البلدان الّتي هي على أتمّ الاستعداد للاستثمار بشكل كثيف في الطلبيّات الضّخمة. ولكن كيف لمهندس معماريّ من كوريا الجنوبيّة (أو الصّين أو بلد عربيّ) منغمس في نظام إنتاج خاصّ به أن يستوعب الواقع الجزائريّ عند بعد؟
...
أودّ أن أؤكّد كذلك أنّه مقارنة بالبلدان الّتي يطلق عليها اسم بلدان نامية، على الجزائر أن تثبت عراقتها ونضجها الثّقافيّ، ولا يجب أن تتصرّف على أنّها متأخّرة عن الثّقافة وبمنأى عنها. ويجب على التطوّر الّذي يرافق ما يسمّى بالسّياحة الثّقافيّة الّتي تستفيد منها الدّولة أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الضّرورات.
...
إذا كانت الأهداف الحاليّة للحكومة متّجهة نحو جعل العاصمة مدينة عالميّة، وتصبّ في خانة عمليّات الهيبة والرّفعة وجعل المدينة خاضعة لنماذج البلدان العربيّة الثّريّة، فلا يجب أن ننسى أنّ للمدينة قلبا ينبض، قلبا حقيقيّا متجذّرا في وطنيّته، ومنقوشا في ذاكرة التّاريخ، وهذا القلب النّابض للجزائر العاصمة هي القصبة.
سيرة الفنان
ولدأسامة الثّابتي سنة 1988، وهو فنّان بصريّ يعيش ويعمل في الجزائر العاصمة. تحصّل سنة 2012 على شهادة من المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة.
وتتناول أعماله الفنّيّة عموما الصّورة في كلّ جوانبها المتعدّدة في الفنّ. ومن خلال استخدامه لما توفّره الصّورة اليوم من بدائل للتّعبير في الفنّ التّشكيليّ يحاول الثّابتي التّموقع ونقد التّغيّرات والظّواهؤ الّتي تطرأ على المجتمع وعلى العالم الّذي يعيش فيه. ويمكن رؤية هذا الاهتمام الّذي يعيره للوقائع والأحداث اليوميّة في أغلب أعماله الفنّيّة الّتي يقدّمها في مختلف المعارض الدّوليّة الّتي شارك فيها، خاصّة بيينال المبدعين الشّبّان من أوروبّا والمتوسّط في سكوبي بمقدونيا سنة 2009، والمهرجان الدّولي للفنّ المعاصر (FIAC) في الجزائر العاصمة سنة 2011، وفي بيينال DAK'ART للفنّ الأفريقي المعاصر في داكار سنة 2012، وفي تظاهرة «لحظات فيديو» (Instants vidéo) في مرسيليا سنة 2012، وفي بيينال الفنّانين الشّبّان (MEDITERRANEA 16) في أنكون بفرنسا سنة 2013.