الفراغ استعراض لماضي الفراغ
فقط عندما يبرز شيء جديد للوجود يمكننا اعتبار الفضاء الّذي نشأ فيه أنّه كان فراغا.
وتلك هي تركيبة الفضاء العجيبة، فهو يتّسع ليسمح بمثل هذا النّشوء الجديد.
حدّثتني ناقدة الفنّ أوزغي ييلماز في بريد إلكترونيّ بعد ثلاثة أشهر من زيارتها لورشة الفنّ الّتي أعمل فيها، حيث أسررت لها بشبه الحفريّات الأثريّة الّتي أودّ القيام بها، والّتي أسعى جاهدة إلى أن أفشل في إنجازها: «منذ اليوم الّذي زرت فيه ورشتك أخذت الكثير من الأشياء تدور في عقلي حول مسألة الفراغ، ولكن دون أن تتطوّر إلى فكرة حقيقيّة ومتماسكة". ثمّ واصلت حديثها قائلة: "ثمّ إنّني أريد أن أقاسمك صورة لاحت لي ونحن نتجاذب أطراف الحديث في ذلك اليوم: كلّما كانت رقعة الفراغ تتّسع وتتّسع وتتّسع، كان الفضاء الكلّيّ للأشياء الّذي أقصاه الفراغ يكتظّ أكثر فأكثر. في الآونة الأخيرة، ولسبب أجهله، شغلني هذا الأمر كثيرا.»
كنت في تلك الآونة حاملا في الشّهر الرّابع، وكنت أشعر أنّ هذا الوصف يناسب بشكل كبير نموّ الرّحم داخل أحشائي.
كان العام 2015 يوافق الذّكرى المائويّة لإبادة الأرمن. وكنت حينها أعيش في تركيا ومشغولة الفكر بأولئك الّذين فقدتهم هذه الأرض، فقرّرت أن أتعامل مع هذا الفراغ وأن أعمل على إنجاز عدد من التّفاعلات حول هذه الفكرة. وألفيت نفسي - أنا الفنّانة الّتي تعوّدت على التّعامل مع الأشياء والتّماثيل -أصطدم مصادفة بهذا الفراغ.
وقد تبلورت هذه التّفاعلات بثلاثة طرق مختلفة. ودون قصد كنت أقول للنّاس عندما يسألونني عمّا أفعله أنّني بصدد التّنقيب عن الفراغ:
«لقد لفتت نظري إلى هذه الفكرة صديقة مختصّة في التّنقيب عن الآثار. عندما زارت الموقع لأوّل مرّة، كان على ما يبدو عرضة لعديد الهجمات من طرف لصوص الآثار، الّذين بفضل نشاطهم الحفريّ المخالف للقانون تمكّنّا من أن نتواصل مع الفراغ. لم نكن واثقين تماما من حقيقة هذا الشّيء، ولكن الأمر الّذي أدركناه في تلك اللّحظة هو أنّ هذا الأمر يبدو حدثا خارقا للعادة (وخارقا للطّبيعة).»
من المؤكّد أنّ الفراغ كان رابضا تحت الأرض، وكنّا بصدد إعداد التّراخيص اللاّزمة لحفريّاتنا الأثريّة. وبما أنّه كان منذ تلك اللّحظة يغيّر مكانه باستمرار كان الفشل حليفنا كلّ مرّة.
لقد كان ذلك الفراغ دعوة للتّواصل مع الفكرة، وللبحث في أفكار أخرى عن الصّدى الّذي يمكن أن يولّدها هذا المفهوم. وكانت الإجابات على جانب كبير من الأهمّيّة، ممّا دفعني إلى التقاطها. لذلك استعملت الفيديو، وحدّدت مواعيد لأسأل بعض الخبراء عمّا إذا التقوا خلال عملهم المهنيّ بالفراغ، وسألتهم إن كان هناك مكان محدّد يربض فيه. وبما أنّ مآل عملي الميدانيّ كان دائما الفشل، خمّنت في أنّ موقعه لا يمكن بالضّرورة أن يكون مادّيّا وملموسا، وأنّه ربّما كان فقط في دائرة الميدان الأكاديميّ. (ويمكن أن نجد إجابة وجيهة مدّتني بها الدّكتورة متلم أهيسكا من قسم علم الاجتماع في جامعة بوغاز إتشي على هذا الرّابط).
أمّا الطّريقة الثّالثة لإنجاز التّفاعلات فهي من خلال استعمال وإعادة إحياء بروتوكول لمعرض «نظام الطّائر الثّالث» الّذي يتناول بشكل مباشر مسألة الأشياء المفقودة. وللقيام بذلك اشتغلت مع عدد من الأعضاء المرموقين لمجموعة ESTAR(SER)، وقمنا بتنظيم ثلاثة ورشات: نبلاش 1: «الوضع المسروق» (The Stolen Condition)، إسطنبول، 12-15 أفريل 2014، نبلاش 2: «تمثيل الغياب» (Representing Absence)، نيويورك، 28 ماي 2014، نبلاش 3: «اللاّممثَّل» (The Unrepresented)، إسطنبول، 22-31 أوت 2014. وسيقع تقديم ثمرة هذا المجهود في متحف «سالت» بإسطنبول في نهاية شهر جانفي 2016، في شكل قراءة إنجازيّة وورشة تجريبيّة.
وربّما لأنّ التّصوير والتقاط الصّور هو أمر مناف لفكرة الفراغ نفسها، فإنّ هذه التّفاعلات لم تستقرّ في شكل عمل فيديو. في كلّ مرّة كنت فيها قادرة على الإمساك بآلة التّصوير ومسجّل الصّوت كنت دائما أشعر أنّ الشّبح قد أفلت منّي، فعدسة الكاميرا كثيرا ما تفشل في الإيفاء بحقّ تجربة العدم. إذ بالأحرى تصبح هذه التّفاعلات وضعيّات نستشعر من خلالها الفراغ يرنّ في مكان ما من الفضاء التّبادليّ بين الأشخاص. فتجد فيه العديد من أشكال الخواء والثّقوب السّوداء والجزر الغارقة ومناجم الذّهب الضّخمة، وتصادفك أيضا المجاري الّتي ابتلعت ناطحات سحاب بأكملها. ثمّ إنّك تحسّ نفسك في عالم اللاّتمثيل، وفيه تجد كراسيّ السّلطة الشّاغرة، والأنوثة، وفكرة الفقدان والعدم، والفضاء الأموميّ للإبداع الفنّيّ. كما أنّ فيه مسألة الذّاكرة والفضاء الّذي تركه حبيب مفقود، وفيه العديد من أساطير الخلق، بالإضافة إلى الفراغ الوجوديّ. ضف إلى ذلك الحدث التّاريخيّ للاكتشاف الثّوريّ للصّفر في الحساب، والعديد من الفنّانين الآخرين الّذين تناولوا موضوع الفراغ. ويوجد كذلك الشّكل والتّجريد والسّلبيّة الخالصة، إضافة إلى فكرة الفراغ كقدرة سياسيّة، وكذلك الطّاقة السّوداء. وفي الأخير هناك تجد الصّمت والاحترام التّامّ لكلّ ما لا يمكن تمثيله.
اندهشت المشرفة على الرّواق الّذي أعرض فيه عندما قدّمت لها اقتراحا للتّنقيب عن الفراغ، وهتف قائلة «ولكنّك بهذا سوف تدمّرين الفراغ ! إنّ الحدود هي الّتي تحدّد الفراغ وتعزله. إذا أردت التّنقيب عنه واستئصاله من الأرض فستكون بلا شكّ نهاية وجوده !» اقترحت المشرفة على الرّواق عوضا عن ذلك أن أستعمل تقنيّات استشعار عن بعد مثل رادار استكشاف باطن الأرض (GPR).
في النّهاية تحوّلت صور رادار استكشاف باطن الأرض إلى صور فوق صوتيّة. وبما أنّ مهنتي هي الخلق والإبداع فإنّني أصبحت مهووسة بهذه الصّور، فقد أدهشتني فكرة أن أرى جسدي يملك التّكنولوجيا الّتي يمكن لها أن تجعل منّي شخصا جديدا. وبما أنّ الفراغ تحوّل إذن من موقع عدم وشغور إلى موقع فيه ضرب من القوّة الكامنة فقد لاحظت لوهلة أنّني قد اندمجت وتجسّدت فيه.
وانبثق من مشروع التّنقيب عن الفراغ عمل استطراديّ، ولكن في النّهاية كلّ العوالم انسحبت منه. وكان قد تزامن مع يوم قبل ولادة ابنتي أنّني قمت بتنصيب "استعراض لماضي الفراغ" في معرض Re-present Exhibist: 2 Years الّذي أشرفت عليه آنّا زيزلسبيرغر في رواق Mixer، في الفاتح من سبتمبر 2015. وبتجريده من العمليّة بأسرها يسعى العمل إلى استحضار موقع النّشوء، من خلال مزج الماء والطّلاء المسحوق.
15 ديسمير 2015
إسطنبول
رد من ملتم أهيسكا، ديسمبر 2014:
بسبب الفراغ...
عندما كان الفيلسوف الإيطاليّ جيورجو أغامبين يبحث في مفهوم «الشّهادة» اهتمّ بحكاية اقتبسها ممّا أورده بريمو ليفي في حديثه عن معسكر الاعتقال في أوشفيتز: تتمثّل القصّة الّتي بالكاد يمكن أن نسمّيها قصّة في حكاية طفل يتيم يبلغ من العمر ثلاث سنوات ويعرف هناك باسم «هوربيناك». كان الطّفل «مشلولا من خاصرته حتّى قدميه، وكانت ساقاه ضامرتين وتشبهان في نحولهما قصبتين طويلتين». ولطالما ردّد الطّفل كلمة مبهمة لا معنى لها في أيّ لغة من اللّغات الّتي يعرفها المعتقلون في المعسكر: «ماسكلو» أو هي «ماتيسكلو». وسريعا ما اندثرت هذه التّمتمات بموت الطّفل نفسه. ويعتقد الفيلسوف أغامبين أنّ هذه الألفاظ المنطوقة تشير إلى كلّ ما لم تقع مشاهدته أومعاينته، أي إلى الأصوات الّتي تلاشت واندثرت من عالم الإنسان. لذلك فإنّه يرى أنّ من واجب اللّغة أن تجيب عن هذه اللاّ لغة، إذ تقتضي الشّهادة أن تأخذ بعين الاعتبار اللّغة الّتي هي لا لغة في الآن ذاته.
ومن هذا المنطلق فإنّ العلاقة القائمة في العديد من الأديان السّماويّة التّوحيديّة بين مفهومي «الشّاهد» و«الشّهيد» – الّذي يشهد على وجود الله ووحدانيّته من خلال فعل الموت – هي علاقة قد تمّ تقويضها وتقزيمها. إذ أنّه في ذات القصّة – الّتي هي ليست بقصّة – والّتي رواها جيورجو أغامبين، يصبح الطّفل الّذي رحل عن الحياة بلا معنى وهو ينطق بألفاظ تخلو من أيّ معنى شاهدا ليس على شيء موجود، بل شاهدا على العدم أو على الفراغ. فهل من الممكن أن يكون الإنسان شاهد عيان على الفراغ؟
حين يكتب الشّاعر التّركيّ أديب كانسفر منشدا: «رجائي أن تدفع قُدُما / هذا الفراغ، ذلك الّذي تراه أمامك»، أو عندما يقول الشّاعر الإيرانيّ فروغ فرخزاد: «لقد أزهرنا على أرض وضيعة / وانهمرنا على أرض وضيعة / لم نر إلاّ العدم على طول الطّريق...» فإنّهما في قصائدهما يمزجان الفراغ والعدم بحركة الحياة. وعوض أن يكون الفراغ كيانا مخيفا ومهدّدا للحياة ومتواريا في مكان ما، فإنّه يصبح في حالة حركة دائمة، بمعنى أنّه يمكن الالتقاء به على طول الطّريق، وفي أغلب الأحيان نستنكف رؤيته. فليس للفراغ صورة أو موقف خاصّ به، ولا يمتلك لغة. بل على العكس من ذلك، فهو في حالة محيّرة ومدوّخة من الارتباك والهيجان. هل يمكننا رؤية الفراغ، أو بالأحرى التّحديق في الفراغ؟
أمّا الرّأسماليّة فإنّها لا تعرف الفراغ، فهي تؤسّس للنّظام من خلال إخضاع الفراغ للامتلاء. وبهذا المنطق يمكنها أن تحتلّ الفراغ: «كلّ شيئ هنا». فهي من خلال إفراغ أجسادنا تجعل من الإنسان عاملا مأجورا، ومن خلال ملء فراغات الزّمن يمكن لها أن تخلق فسحات زمنيّة من وقت الفراغ.
وماذا عن الجنود المجهولين الّذين قضوا نحبهم في الحروب؟ اختفاءات قسريّة، عمليّات قتل تنسب لمجهول، والّذين انتهى بهم الأمر في أعماق البحار وهم في طريق الهجرة، والنّساء اللاّتي قُتلن «باسم الحبّ»... لقد تمّ تحويل غياب كلّ هؤلاء، ليس فقط المادّيّ بل أيضا المعنويّ، إلى غياب غير مرئيّ وغير مسموع. لقد وقع غزو اللّغة بالدّلالات، وبكلمات لا يمكن أن تذهب أبعد من احتفالها بذاتها، لقد اجتاحها الطّغاة والحكّام...
كيف يمكن لذكرياتنا عن مكان وزمن غير موجودين – اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) والأكرونيا (التّاريخ البديل) – أن تبقى على قيد الحياة؟
يواصل الفراغ طريقه ببطء ولكن بثبات، من أجل تقويض صروح الامتلاء. وبينما يتحرّك الفراغ الآن وهنا، يشعر المرؤ بنوع من المقاومة الخافته الّتي تتحدّى هذا العدم.
ملتم أهيسكا
15 ديسمبر 2014، إسطنبول
سيرة الفنان
ولدت سيبل هورادا في سنة 1980 وهي تعيش وتعمل في اسطنبول. تحصّلت على باكالوريوس في الفنون البصريّة من جامعة براون وعلى شهادة ماجيستير في الفنّ والتّصميم من الجامعة التّقنيّة في ييلديز. وقد قامت هورادا بعرض أعمالها مع مجموعة من الفنّانين على الصّعيد الدّوليّ أمّا عرضها الفرديّ الأوّل فكان في رواق «داير» في اسطنبول سنة 2012.