يحاول «مشروع بيروت بصدد الكتابة - النّهر»[1] استجلاء المناطق الحضريّة المتاخمة لنهر بيروت، وبالخصوص المنطقة الّتي يطلق عليها اسم «الجسر الواطي»[2]. وأسعى في هذا المشروع إلى النّظر من خلال الحاضر إلى التّاريخ الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ للمنطقة، حتّى يتسنّى لي استيعاب الرّوايات وإنتاجها لتعطينا لمحة عن الماضي ولتكون ذات مغزى في الوقت الرّاهن. ماهو جوهر الرّوايات الّتي يمكن أن تنبثق من رحم هذه الأماكن، عوضا عن أن تجسّدها؟ هو سؤال طرحته في فيلمي الرّئيسيّ «والحياة سهلة» (2014). كيف كان صنع القرارات السّياسيّة أو غيابها عاملا في تغيير المشهد في المنطقة، وكيف تمّت ترجمة ذلك في الحياة اليوميّة، لتصبح هذه المنطقة فضاء تتراكم فيه أغلب المشاكل العويصة في لبنان؟ كيف يمكن لهذا المكان أن يؤثّر ويتأثّر بصناعة الفنّ؟
كان أوّل لقاء لي مع هذا المشهد الطّبيعيّ قد بدأ في عام 2004 عندما كنت أبحث عن فضاء لتأسيس مركز بيروت للفنّ (BAC)[3] الّذي فتح أبوابه في هذه المنطقة في يناير من العام 2009، والّذي شاركتني في تأسيسه ساندرا داغر. كان اختيارنا هذا ناجما عن شيئين: أوّلهما ضرورة إيجاد فضاء فسيح وثانيهما القيود الماليّة الّتي واجهتنا والمتعلّقة بالمشروع. في الحقيقة كانت المصانع والمخازن الّتي بنيت في الأصل في الأربيعينيّات والخمسينيّات تملأ المكان، أمّا اليوم فتتّسم هذه المنطقة الّتي تتاخم مدينة بيروت بالتّنوّع من حيث السّكّان ونشاطاتهم الاقتصاديّة. ويشمل هذا التّنوّع العديد من الجنسيّات والمجموعات العرقيّة الّتي تتكوّن من اللاّجئين والعمّال المهاجرين. أمّا على الصّعيد الاقتصاديّ فإنّك تشعر بالتّنوّع من خلال النّشاطات الّتي يقوم بها السّكّان والّتي تمتدّ من الصّناعات اليدويّة والممارسات الفنّيّة والدّعارة إلى البناء والعمارة والهندسة وشركات النّهوض بالأملاك العقاريّة. ورغم أنّ هذه المنطقة تتبع إداريّا حيّ الأشرفيّة في بيروت، إلاّ أنّها دائما ما تمّ اعتبارها منطقة على هامش المدينة.
ويستدعي هذا التّحوّل الحديث والسّريع في المنطقة التّفكير في العديد من الجوانب المتداخلة الّتي تتعلّق بالنّهر وما يجاوره. ويتمحور الجانب الأوّل حول موضع نهر بيروت وعلاقته بالمدينة من حيث ارتباطه بفكرة «المشهد الحدّ»[4]. فعندما ننظر إلى الجهة الشّرقيّة للمدينة نلاحظ أنّ للنّهر وظيفتين متناقضتين، فهو في الآن نفسه يربط ويفصل بين المدينة وضواحيها[5]. أمّ الجانب الثّاني فيتعلّق بالتّنوّع السّكّانيّ للمهاجرين الّذين استقرّوا تاريخيّا على هامش المدينة وامتصّوا الفائض من القادمين إلى هذا المركز الحضريّ، ممّا أدّى إلى خلق مستوطنات بجانب النّهر شكّلت لاحقا ما يسمّى «حزام البؤس»[6]. أمّا الجانب الأخير فيتعلّق بتطوير وتحسين المنطقة الّتي تعتبر من آخر الفضاءات غير المستغلّة في العاصمة. ويتمثّل هذا التّطوير في تنمية المناطق الفقيرة المهملة وغير السّكنيّة الّتي تتّسم بمصانعها ومحطّات القطار الآيلة للسّقوط، إضافة إلى وجود ممارسات غير قانونيّة فيها مثل الدّعارة والإجرام، وجعلها مكانا يسترعي اهتمام العاملين في الفنّ، ومنطقة سكنيّة فاخرة.
«هضبة الأشرفيّة هي أقرب إلى السّاحل في اتّجاه الشّرق، وتطلّ على المرفإ الحديث ويحدّها نهر يحمل اسم المدينة – نهر بيروت (الّذي عرف لدى الرّومان القدامى باسم ماغوراس) – وترتفع الهضبة عن مستوى البحر بما يفوق الثّلاثمائة قدم»[7]
يمثّل نهر بيروت الحدّ الشّرقيّ للمدينة منذ إصدار مرسوم سنة 1956 [8]. وينبع النّهر من المنحدرات الغربيّة لجبل لبنان، ويتدفّق غربا ثمّ شمالا فاصلا بذلك بين مدينة بيروت وضواحيها الشّرقيّة ليصبّ في السّاحل المتوسّطيّ في شمال المدينة شرق الميناء. وكان الرّومان قد شيّدوا سدّا لتغيير مجرى الماء من عين الدّيشونيّة وإيصاله إلى المدينة من خلال قناة زبيدة. وقد وفّر هذا النّظام الماء للمدينة إلى أن طالها الخراب والدّمار في بداية العهد العثمانيّ. ومنذ ذلك الوقت ساهم النّهر فقط بشكل جزئيّ في ريّ المدينة، وبعدها تحت الاحتلال الفرنسيّ تمّ تشييد سدّ من الإسمنت المسلّح سنة 1934 لريّ الأراضي الفلاحيّة المحاذية للنّهر[9]. ولكنّ البنية التّحتيّة لم تدم سوى سنة واحدة. وتمّ في عام 1968إنهاء شبكة القنوات لنهر بيروت من الضّفّة إلى سنّ الفيل. وقد سرّعت الفياضانات الّتي ألحقت أضرارا كبيرة بالنّهر في القيام بهذا المشروع، وكانت هذه الفياضانات نتيجة قيام النّازحين بانتهاكات وبإعمار مفرط لمنطقة فيضان النّهر[10]. ولكنّ السّبب الرّئيسيّ لإحداث شبكة القنوات هذه هي المائة عاما من الفياضانات لنهر أبو علي في مدينة طرابلس الّتي تقع شمالا والّتي أتت على أرواح العديد من السّكّان ودمّرت آلاف المنازل والأراضي الزّراعيّة[11]. وكانت الأشغال في شبكة القنوات في المنطقة الواقعة بين سنّ الفيل وجسر الباشا قد تعطّلت خلال الحرب الأهليّة، ثمّ وقع إتمامها عام 1998. وهناك حاليّا ستّة جسور على النّهر وتربط بيروت بضواحيها، وبنيت هذه الجسور في الفترة الممتدّة بين الأربعينيّات والسّبعينيّات: جسر الدّرّة، وجسر برج حمّود (بني على أنقاض الجسر العثمانيّ) ، وجسر الواطي في سنّ الفيل، وجسر الباشا الواقع على بعد أمتار من بقايا الجسر العثمانيّ [12] . والجسر المحاذي لمركز الفنون ببيروت هو جسر الواطي الّذي وقع التّطرّق إليه سابقا والّذي يشهد تطوّرا سريعا.
«لا يمكن تخيّل وضع أفضل من هذا: مرج يكتسي رداء أخضر، ويمتدّ حتّى الجانب الشّرقيّ أين ترى أرضا معلّقة فوق جوف الخور الجميل حيث يجري نهر بيروت. أمّا الحدّ الشّماليّ فإنّه يوجّه نظرنا إلى مشهد البحر ومنظر جنان بيروت الّتي تقع على الجانب الشّماليّ الغربيّ. [...] كنت قد قدّمت رحلتي في اتّجاه بيروت إلى غرّة يونيو، وشددت الرّحال نحو الشّرق على طول الخليج. ويعد أن قطعت مسافة فرسخ تقريبا وصلنا إلى المكان الّذي يقولون إنّه فيه قتل سانت جورج التّنّين[13] الّذي كان على وشك التهام ابنة ملك بيروت. لاحظنا كذلك وجود مسجد في المكان كان في ما مضى كنيسة يونانيّة، وغير بعيد عنه يقولون إنّ التّنّين عادة ما كان يخرج من جحره الّذي يلقّب الآن بفوهة التّنّين، ويقول مؤلّفو العصور الوسطى إنّ هذا المكان كان يدعى "كابادوشيا". [...] وعلى بعد ميل شرق هذه المنطقة عبرنا من فوق نهر بيروت على جسر متكوّن من سبعة أقواس بعضها بني في العصور القديمة. ويواصل هذا النّهر سيلانه نحو الشّمال عبر السّهول الّتي تقع شرق غابة الصّنوبر. ربّما كان نهر بيروت هو نفسه نهر ماغوراس الّذي تحدّث عنه الكاتب الرّمانيّ بلايني في تصنيفه للأماكن، رغم أنّ البعض يؤكّدون أنّ النّهر هو نفسه نهر تاميراس.» [14]
كان النّهر حتّى عام 1850 سهلا تكثر فيه الأنشطة الزّراعيّة. وكانت الرّوايات الصّادرة عن الأهالي تصف المناطق المحيطة بالنّهر بأنّها كانت تعبق «بالطّبيعة» في النّصف الأوّل من القرن العشرين: الجنان وأشجار الموز والبرتقال واللّيمون والطّماطم. في ذلك الوقت كان الأهالي يستخدمون النّهر في أنشطتهم المحلّيّة اليوميّة: كانت الأمّهات تغسلن فيه الملابس أيّام الآحاد، ويستخدمن ماءه للطّهي، أمّا الأطفال فكانوا يستحمّون فيه، أو يصطادون السّمك أو يلعبون لعبة الإمساك بالضّفادع أو الثّعابين. وكان النّاس عادة ما يقطعون النّهر لزيارة أقربائهم في الضّفّة الأخرى، أو يذهبون للتّسوّق في الأشرفيّة أو سنّ الفيل. وفي أحيان أخرى كان النّهر يؤدّي وظيفة صمّام الأمان الّذي يفصل بين التّجمّعات السّياسيّة الأرمينيّة المتناحرة الّتي جعلت من الجسر الّذي يعود إلى عهد الحماية الفرنسيّة أرض معركة في وقت من الأوقات[15].
لقد كان تطوّر الميناء كميزة أساسيّة لازدهار المدينة في القرن التّاسع عشر سببا في نموّ البنية التّحتيّة للمناطق الّتي تمتدّ وراء المرفأ[16]. في العام 1934 تمّ تشييد مستشفى الأمراض السّارية في إطار تطوير الميناء، وكنتيجة للاهتمام المصريّ بالصّحّة العموميّة وللحدّ من الأوبئة. فقد اختير «ليقع خارج المدينة ولكن غير بعيد عنها» في المنطقة الّتي حافظت إلى اليوم على اسم «كارنتينا»[17]. وقد عزّز تأسيس الكارنتينا النّموّ الاقتصاديّ لبيروت من خلال النّهوض بالميناء وتوسيعه ليصبح ميناء توقّف دوليّ[18]. وابتداء من عشرينيّات القرن العشرين صارت منطقة النّهر أكثر كثافة سكّانيّة وأكثر تمدّنا[19]. وبفضل موقعه الاستراتيجيّ تطوّر نهر بيروت ليصبح مركزا أساسيّا للبنية التّحتيّة ويربط الميناء بالمناطق الدّاخليّة[20]. وتطوّرت بالخصوص المستودعات وخدمات النّقل على ضفّة النّهر، وأدّى ارتفاع النّشاط في الحركة البحريّة التّجاريّة إلى تطوّر مستودعات الخزن وإعادة تدوير البضائع الكبيرة الحجم. باختصار لقد كان "تطوّرا حضريّا سريعا وغير مخطّط له" ممّا نتج عنه ظهور عوارض المفسدة والتّدهور في منطقة الميناء[21].
«كلّ الرّوايات عن بيروت قبل ستّينيّات القرن التّاسع عشر تبرهن على هذا. حتّى ذلك الوقت لم تكن بيروت سوى مدينة صغيرة من القرون الوسطى تحيط بها القلاع، ويمكن الدّخول إليها عبر سبع بوّابات رئيسيّة، وفيها ربع ميل مربّع تقريبا من الجنان والحدائق. وكان قلب المدينة قد بني حول مينائها وحاجز أمواجها التّاريخيّ ودفاعاتها الواقعة في اتّجاه اليابسة وبرجيها في مدخل الميناء. وكما في أغلب المدن الأوروبيّة قبل الثّورة الصّناعيّة كان سكّان بيروت يعيشون ويعملون في نفس المنطقة ويقومون بأعمالهم اليوميّة الرّوتينيّة في نفس الحيّ الحضريّ.»[22]
وفي نفس الفترة قامت موجة من النّازحين بتشييد منازلهم حول نهر بيروت. وخلال الحرب العالميّة الأولى بعد المجازر الّتي قام بها الأتراك في حقّ الأرمن فرّ عشرات الآلاف من ديارهم والتجؤوا إلى مخيّم في كارنتينا، ثمّ انتقلوا لاحقا إلى برج حمّود. أمّا المجموعات السّريانيّة فقد وصلت إلى المنطقة بعد حملات التّرحيل الّتي طالتهم على يد الامبراطوريّة العثمانيّة في بداية العشرينيّات من القرن الماضي[23]. وبالنّسبة إلى الأكراد قثد استقرّت في كارنتينا موجات عديدة من الّذين فرّوا من سياسة التّركمنة الّتي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك وما ارتبط بها من عنف وتقتيل. وفي العام 1948 تدفّق اللاّجؤون الفلسطينيّون إلى المكان واستقرّوا في المخيّمات المحيطة بالمدينة. وغالبا ما تشير التّقارير حول الأحياء الحضريّة الفقيرة إلى العمّال العرب - خاصّة السّوريّين - في هذه الأحياء قبل الحرب[24]. فقد أدّى الضّغط السّكّانيّ على المناطق المحيطة ببيروت إلى ظهور بنايات متداعية لا يمكن تصنيفها: «لقد كان المهاجرون يتراصّون ويحتشدون في أكواخ ريفيّة قديمة أو في بنايات من الإسمنت أعدّت لهم على عجل. كانت هذه الأماكن غير مهيّأة وتفتقد إلى أبسط أسباب الرّفاه، وتقع على طول شوارع غير معبّدة.»[25]وقد عجّل غياب الخدمات البلديّة والعموميّة في هذه المناطق بتفاقم الفقر وظهور الأوبئة.
«لم يكن انتشار المناطق الحضريّة نتيجة لقصور في التّخطيط السّليم فحسب، وإنّما تفاقمت هذه المناطق بشكل أفقد المدينة قدرتها على توفير الخدمات الأساسيّة، ممّا أدّى إلى عدم قدرة بيروت على الاستيعاب بسرعة الأعداد الهائلة من القادمين الجدد دون أن يقع تشويهها»[26].
وقد نتج عن الرّخاء الاقتصاديّ في الأربعينيّات من القرن الماضي تطوّر في القطاع الصّناعيّ على طول النّهر[27]. وفضلا عن ذلك ساهمت الطّفرة في البنايات في الخمسينيّات والسّتّينيّات إضافة إلى الضّغط الّذي مارسه المستثمرون الخواصّ في أنماط غير منظّمة من النّموّ في المناطق المتاخمة للنّهر. فقد اتّسعت رقعة طوق الأحياء الحضريّة الفقيرة بين 1965 و1970 لتمتدّ من كارنتينا/ نهر بيروت إلى الميناء الجوّيّ[28]. وفي واقع الأمر جلب تنامي القطاع الصّناعيّ عمالة رخيصة، وتركّزت المصانع الجديدة حول الأحياء الفقيرة الّتي يسكنها النّازحون من الرّيف والعمّال المهاجرون واللاّجؤون، ليبرز بذلك الجانب الآخر من «تنامي الثّراء»[29]. وفي حقيقة الأمر يتمعّش التّطوّر الصّناعيّ وسكّان هذه الأحياء الفقيرة من بعضهم البعض[30]. في السّبعينيّات من القرن العشرين كانت بيروت تشهد تحضّرا مفرطا فيه حيث بلغ معدّلات فاقت ما يمكن توقّعه من مستويات التّصنيع[31].
«يكفي أن نلاحظ أنّ هذا المشكل هو من أكثر المسائل الّتي تواجهها لبنان تعقيدا، مشكل تترتّب عنه تداعيات اجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة خطيرة . اكتظاظ ومفسدة سكّانيّة، واستنزاف للمناطق الخضراء، وفوارق في توزيع الدّخل، وارتفاع في معدّلات البطالة ونقص في العمّال والمساكن، وغلاء فاحش في الكراء، ومشاكل متفاقمة في الأحياء الشّعبيّة ومدن الأكواخ، وإلى حدّ ما عنف حضريّ خلال سنوات الحرب، كلّ هذا نتاج للتّحضّر المفرط فيه. باختصار فإنّ حجم التّحضّر ومداه قد استنزف موارد المدينة وقدرتها على التّعامل مع الطّلبات المتزايدة للفضاءات الحضريّة والحجات العامّة»[32].
يؤدّي نهر بيروت الواقع على هامش المدينة وظيفتين، فهو يمثّل الحدود «الطّبيعيّة» للعاصمة الّتي مانفكّت تنمو وتتطوّر، ويلعب دور منطقة متحوّلة تستظيف مع مرور الوقت أعداد كبيرة من اللاّجئين. فاليوم لا توجد في المنطقة آثار واضحة للحرب. فقد كانت خلال الحرب اللّبنانيّة جزءا من بيروت الشّرقيّة تخضع للميليشيات المسيحيّة، وكانت مسرحا لعدد قليل من المعارك الدّامية. في العام 1975-1976 بدأت المعارك في مركز المدينة وامتدّت إلى خارجه لتصل إلى أحياء الفنادق والضّواحي الجنوبيّة الشّرقيّة ممّا أدّى إلى ظهور ما يعرف بالخطّ الأخضر الّذي قسّم بيروت إلى قسمين (غرب بيروت المسلم وشرقها المسيحيّ). وقد انعكس هذا على الخارطة الاجتماعيّة لبيروت من خلال خلق «مجتمعات منحصرة ومغلقة»[33]. فقد وقع إجلاء مجموعات بأكملها من المناطق الشّرقيّة والغربيّة للمدينة بسبب دياناتهم، وانتقلت هذه المجموعات واستقرّت في أماكن أكثر أمنا[34]، ووقع تدمير الجيوب المسلمة في شرق بيروت (كارنتينا ونباء وتلّ الزّعتر)[35]. لذلك فإنّ العديد من المناطق الحضريّة المحيطة ببيروت والّتي أنعشتها المجموعات السّكّانيّة الفارّة إليها قد تأسّست في انتهاك واضح لقوانين البناء والتّشريعات المنظّمة للملكيّة العقاريّة[36].
في العام 1985 شهدت المنطقة معارك أخرى جمعت المجموعات المتناحرة ضمن القوّات اللّبنانيّة[37]. وقد زادت المعارك اللاّحقة بين الجيش اللّبنانيّ بقيادة الجنرال ميشال عون والقوّات اللّبنانيّة من تقسيم المدينة وإلحاق الضّرر بالمنطقة الشّرقيّة لبيروت وضواحيها[38]. ومثال ذلك اتّهامات القوّات اللّبنانيّة للجيش اللّبنانيّ بقصف جسر الواطي الّذي يربط سنّ الفيل بالأشرفيّة حتّ يقطع الإمدادات عنهم[39].
وتشهد اليوم الضّواحي الشّرقيّة تحضّرا بدأ يشيخ ويهرم شيئا فشيئا، حيث تلاحظ وجود مصانع مهملة وأحياء فقيرة تكثر فيها النّفايات. فإلى جانب الموجات القديمة من المهاجرين الّذين استقرّوا حذو النّهر تستقبل الضّواحي الشّرقيّة أفواجا من وغرب أفريقيا وشرقها وكذلك من آسيا (من الفيليبين والهند وسيريلانكا وبنغلاداش والنّيبال)[40]. وفي التّسعينيّات انتقل أيضا عدد كبير من العمّال غير اللّبنانيّين إلى هذه الضّواحي، وخاصّة من السّوريّين الذّكور[41]. وبسبب الوضع المأساويّ في سوريا اليوم تتوافد موجات جديدة من اللاّجئين السّوريّين يعملون بالأساس في مجال البناء، بما فيها مشاريع في منطقة جسر الواطي. ويعرف عن المهاجرين السّوريّين أنّهم تاريخيّا وفّروا للمنطقة قوّة عاملة في مجال البناء بأجرة بخسة مقابل عمل شاقّ.
وقد تمّ إنشاء اثنين من الأسواق الشّعبيّة: سوق الأحد الّذي يفتح أبوابه كلّ يوم سبت ويوم أحد حيث يجد فيه أصحاب الدّخل المحدود والعمّال المهاجرون منتوجات غير باهضة الثّمن مثل الملابس والأنسجة وموادّ التّجميل والأغراض المنزليّة العامّة، وسوق الخضرة. ويقع كلاهما حول جسر الواطي بجانب النّهر. كما يوجد في المنطقة طرق سريعة على طول ضفّتي النّهر فتحجب النّهر النّاضب عن أعين المارّة ومستعملي السّيّارات. فالمنطقة الّتي تكتظّ بالسّكّان خلال النّهار وتمتلئ بصخب عمّال البناء والسّيّارات السّريعة تغرق في صمت رهيب عند حلول اللّيل. وتعكس المشاهد والرّوايات عن البغاء وحوادث العنف الّذي يمارسه العمّال الجانب المتردّي لهذا المكان.
وقد وقع إهمال النّهر لفترة طويلة واستخدامه كموقع لإلقاء النّفايات ليس فقط من طرف المارّة ولكن أيضا من طرف المصانع المحاذية الّتي تلقي بكلّ أنواع الأصباغ والموادّ الملوّثة، وسوق الأحد وسوق الخضرة. وحتّى المسالخ تلقي بنصيبها من النّفايات في القنال، أمّا الحكومة فتنتهي قنوات التّصريف الصّحّي لديها في قاع النّهر. وكان النّهر قد ظهر في عناوين الصّحف عندما كتب «دم النّهر يسيل»[42] بسبب الصّبغ الأحمر الّذي ألقاه أحد المصانع الموجودة على حافّة النّهر. أوّل التّخمينات والمخاوف كانت تصبّ في فكرة أنّ النّهر اكتسب لونه الأحمر بسبب الدّم الّذي يجري فيه، ولكنّ التّجارب الّتي أجريت على الماء أثبتت أنّه ليست المرّة الأولى الّتي يتغيّر فيها لون النّهر بسبب إلقاء كلّ أنواع الموادّ الملوّثة فيه. كما لوحظت في النّهر قطعان من الماشية بالإضافة إلى حيوانات برّيّة مثل التّماسيح ونوع من السّلاحف مهدّد بالانقراض. وبينما أظهرت الصّور والأشرطة التّلفزيّة «تمساحا مترصّدا بالنّاس»[43] فسبّبت الهلع، وتبيّن أنّ هذا التّمساح هو في الحقيقة على ملك أحدهم كان قد أهمله في النّهر.
وقد ساهم الإهمال في فيضان النّهر في فصل الشّتاء ونضوبه في الصّيف، متسبّبا في انبعاث روائح كريهة وسامّة، وفي انتشار القوارض والحشرات. علاوة على ذلك فإنّ شبكة قنوات النّهر غير قادرة على ضبط فيضان نهر بيروت. فهذه الشّبكة الّتي اكتملت في العام 1998 لم تستطع منع انهيار الجسر على حافّة النّهر وغرق المسلخة والميناء في فيضان عام 2005[44]. إذ أنّ إمكانيّة فيضان النّهر متوقّفة على قوانين الطّبيعة وعلى كثافة السّكّان حول النّهر وعلى مدى استعداد قنال النّهر لاستيعاب تدفّق الماء في الشّتاء. لذلك فإنّ الفيضان يبقى كارثة محتملة خاصّة عند ارتباطه بخطر زلزال متوقّع خلال العشر عشريّات القادمة، لأنّ لبنان تقع على خطّ الزّلازل.
ولكن لن يكون سيناريو الكارثة أو التّداعيات المريعة لظاهرة التّحضّر المفرط فيه دافعا لمنع استغلال التّضاريس الأخرى وتطويرها بشكل استشرافيّ.
والسّؤال الّذي يطرح هنا هو التّأثير المتبادل للمصالح الخاصّة والعامّة في هذه المنطقة. «فالطّريقة اللّبنانيّة» سهّلت وخدمت مصالح القطاع الخاصّ على حساب المصلحة العامّة المشتركة. فقد اقترح المختصّ في علم العمران الفرنسيّ ميشال إيكوشار مشاريعه الحضريّة في الأربعينيّات والسّتّينيّات من القرن الماضي بطلب من الحكومة اللّبنانيّة، وتتمثّل هذه المقترحات في الحفاظ على المناطق الخضراء الكبرى وتحسين الحركة المروريّة وتوفير مساكن اجتماعيّة لائقة للطّبقة الفقيرة. ولكن لم ينفّذ من بين هذه المشاريع إلاّ النّزر القليل، حيث ما من أحد كان قادرا على إيقاف مصالح المستثمرين العقاريّين في القطاع الخاصّ[45].
وتبقى اليوم المنطقة الصّناعيّة في جسر الواطي المحاذية للنّهر من الفضاءات القليلة الّتي لم يتمّ استغلالها بعد. وكما أسلفنا سابقا فقد جذبت هذه المنطقة اهتمام الفاعلين الثّقافيّين مثل مركز الفنون ببيروت وفضاء أشكل علوان وحديثا مؤسّسة "ذي ستايشن" فضلا عن شركة نبيل غلام للهندسة المعماريّة والتّصميم. وتشهد المنطقة الآن بروز العديد من مواقع البناء الّتي تضمّ مشاريع معماريّة سكنيّة مثل تقاسيم برنار خوري رقم 4371، وناطحات سحاب صمّمتها شركة إيرغا حيث يقترح مستثمرو «الأشرفيّة 4748» إنشاء مركّبات مقولبة للجاليات. ومفهوم الجاليات المقولبة ليس شائعا الآن في بيروت ويمكن الخوض فيه هنا إذ بإمكانه الزّيادة من استفحال الفوارق الاجتماعيّة والتّفريق بين التّجمّعات المتعايشة.
والمشاريع السّكنيّة الّتي هي بصدد الإنشاء هي جانب واحد من التّطوير والتّحسين الّذي يشمل مخطّطات أخرى أكبر حجما وأكثر طموحا لإعادة تأهيل النّهر. وقد ولدت هذه المشاريع المستقبليّة المقترحة من رحم الضّغط على المساحات الحضريّة داخل بيروت ويدفعها خليط من الاهتمامات البيئيّة والرّفاه الاجتماعيّ إلى جانب المصالح الرّأسماليّة التّجاريّة. واليوم يوجد تنوّع في المشاريع الّتي تتركّز حول نهر بيروت ومنها مشروع النّهر الأخضر (ببادرة من حزب الخضر اللّبناني وتصوّر من شركة إيرغا المعماريّة لتحويل 8.5 كم من النّهر وهو «مشروع طموح للغاية يهدف إلى نشر الممارسات البيئيّة السّليمة وفي نفس الوقت إعادة تشكيل القطاع العقاريّ»[46])، ومشاريع حضريّة مثل عمل حبيب دبس ضمن مخطّط شامل لخلق "شبكة خضراء" داخل المدينة من خلال إنشاء مسالك خضراء حول النّهر وربطها بالفضاءات العموميّة الأخرى[47]، وعمل ساندرا فريم الرّائع حول "الاستمراريّة البيئيّة" للنّهر والمساحات المحيطة به من خلال طريقة صديقة للبيئة ومسؤولة اجتماعيّا، والمخطّط الشّامل لحوض نهر بيروت (مشروع بمبادرة ذاتيّة من (theOtherDada (tOD) الّذي يهدف إلى «تعزيز الانتقال من البنية التّحتيّة الحاليّة المختلّة إلى بنية تحتيّة زرقاء وخضراء صديقة للبيئة»[48]. كما توجد مشاريع للطّلبة الباحثين لإعادة تأهيل النّهر في شكل أعمال أكاديميّة في الجامعة، إضافة إلى مشروع الثّعبان الشّمسيّ في بيروت وهو بادرة من وزارة الطّاقة والمياه ومركز الحفاظ على الطّاقة لإنشاء مزرعة شمسيّة فوق النّهر.
إنّ إمكانيّات النّهر والمناطق المحيطة به من حيث الطّاقات المتجدّدة والسّليمة بيئيّا الّتي يتميّز بها (الطّاقة الشّمسيّة وتنقية المياه وإعادة توزيعها) والفضاءات العامّة الخضراء والمواصلات ومسالك الدّرّاجات الهوائيّة ومراكز الرّياضة ليتمتّع بها السّكّان هي إمكانيّات واعدة من أجل تطوير متوازن ومهيكل للمنطقة الّتي عانت من طول الإهمال وتحويلها إلى مورد للطّاقة والاستثمار والعيش الكريم. بعبارة أخرى إمكانيّات النّهر تجعله يتموقع من جديد في قلب بيروت بهذه المشاريع الحاليّة. فالسّكّان بحاجة ملحّة اليوم إلى فضاء عيش أفضل وأكثر اخضرارا، ولكن ربّما ليست الأفكار البيئيّة والمسؤوليّة المدنيّة للجوانب الضّخمة والطّوباويّة لهذه المشاريع هي الّتي تدفع بها بقدر ما هي إمكانيّة الرّبح من خلال النّموّ الاقتصاديّ لهذه المنطقة الواسعة.
إنّ ملامح مستقبل النّهر غير واضحة المعالم، مثلها مثل غموض أفق التّعايش بين المجموعات السّكّانيّة الّتي تقطن المنطقة. ولكن الشّيء المؤكّد هو الطّابع الّذي لا رجوع لتداعياته الخطيرة للتّمدّن المفرط حول النّهر، والّذي ربّما كان سيمنع القرارات السّياسيّة من التّعامل مع المخطّطات العمرانيّة والمسائل البيئيّة الحيويّة لبقائنا وعيشنا.
النّهر اليوم ناضب في أغلب الأوقات والحدود الّتي رسمت في الماضي ليست بالحدود الحقيقيّة. فالحدود الشّرقيّة للمدينة غامضة وهي في اتّساع مطّرد. ورغم تصنيف المكان منطقة متّسخة وغير ملائمة للصّحّة وتكثر فيها البنايات الإسمنتيّة، فإنّها تلهمني بنوع من الكآبة الشّاعريّة وتملأ فكري بكثير من الأسئلة الّتي تحرّك خيالي.
ساعدت في البحث وساهمت في إعداد النّصّ: سارّة صبان
قامت بأبحاث إضافيّة: جيسيكا خازريك
سيرة الفنان
ولدت لمياء جريج في لبنان، وهي فنّانة بصريّة ومخرجة أفلام تعيش وتعمل في بيروت. وتستخدم جريج في أعمالها الفنّيّة وثائق الأرشيف وعددا من العناصر الخياليّة لتصوير العلاقة بين القصص الفرديّة والتّاريخ الجماعيّ. كما تسعى هذه الفنّانة البصريّة إلى الكشف عن الطّرق الّتي يمكن من خلالها تمثّل الحروب الّتي مرّت بها لبنان والتّفكّر في تداعياتها، وذلك من خلال رسم صورة لبيروت تضعها في صلب تصوّراتها الفنّيّة. ويتمحور عملها الفنّيّ أساسا حول مفهوم الزّمن وطريقة تسجيل أثره وتدوين تأثيراته على الإنسان.
ومن بين أعمالها نذكر على سبيل المثال: «بيروت بصدد الكتابة - المتحف» (تنصيب باستعمال وسائط مختلطة) سنة 2013، و«ليلة واحدة للنّوم» (سلسلة صور مساحيّة) سنة 2013، و «بيروت، تشريح للمدينة» (تنصيب باستعمال وسائط مختلطة) سنة 2010، و«مدينة صور 1، 2، 3، 4، 5، صورة لتعاونيّة إسكان» (تنصيب فيديو) سنة 2010، و «3 لوحات ثلاثيّة الصّورة» (تنصيب تفاعليّ) سنة 2009، و «البدر» (شريط فيديو) سنة 2007، و«ليال وأيّام» (شريط فيديو وسلسلة مطبوعات) سنة 2007.
وكانت لمياء جريج قد قدّمت أعمالها في العديد من المعارض والمؤسّسات الفنّيّة الدّوليّة مثل بيينال الشّارقة، ومتحف موري للفنون، ومتحف تايت مودرن للفنّ المعاصر بلندن، والمتحف الجديد بنيويورك، ومتحف أوكسفورد للفنّ الحديث.
علاوة على ذلك فإنّ لمياء جريج عضو في مجلس إدارة مركز الفنّ ببيروت الّذي شاركت في تأسيسه، وهو فضاء مكرّس للفنّ المعاصر بلبنان. كما أنّها شاركت في إدارة هذا المركز منذ افتتاحه في جانفي من العام 2009 وحتّى مارس من العام 2014.